الاقتصاد الجزائري في مواجهة كوفيد-19 : هل من الواجب إعادة اختراع كل شيء؟
في ضوء هذا السياق الصعب، يتوجب مسائلة آثار الأزمة الصحية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي للبلد. هل يتعلق الأمر بخطر إضافي أم بمكسب ثمين؟ قد ينطوي المستقبل القريب على أجوبة شافية.
أزمة استثنائية
لا تطال جائحة كورونا صحة الأفراد فحسب، حيث أن نسبة الوفيات التي تفاقمت منذ الأيام الأولى لانتشار الفيروس خارج مدينة ووهان الصينية لم تلبث أن انخفضت بفضل الإجراءات الوقائية والحجر الصحي التي تبنتها عدة بلدان. ولذلك فإن الجائحة تفرض علينا تحليلا من الجانبين الاجتماعي والاقتصادي.
لقد تسبب كوفيد-19 في اضطرابات عميقة طالت طريقة العيش وعطلت الإنتاج الصناعي العالمي وأعادت توزيع الأوراق وذكرت أصحاب القرار في العالم بأهمية التضامن الدولي. فنحن نشهد اليوم عودة إلى القيم الأساسية.
تواجه السلطة الجزائرية، على غرار مثيلاتها في العالم، صعوبات كثيرة في تحقيق التوازن بين صحة المواطن والحفاظ على ما تبقى من جهازها الإنتاجي. ويشي ذلك باقتصاد ارتجالي لا يزال يبحث عن خارطة طريق واضحة. ومن الأسئلة التي تطرح نفسها: أي نموذج اجتماعي واقتصادي يصلح للجزائر؟ وما هي الإستراتيجية الصناعية التي يتوجب تبنيها؟ وما هي الإصلاحات الأولوية التي يجب خوضها؟
بحكم اعتمادها "البنيوي" على المحروقات، يصعب على الحكومة الجزائرية تصور منهج اجتماعي واقتصادي خارج الثروات الباطنية. وبسبب انصياعها لمخاطر السوق النفطية ولتذبذبات أسعار الوقود الحفري، تظل التوازنات المالية والميزانية في البلد معرضة للانهيار في أية أزمة. وتقتصر ردة فعل أصحاب القرار في مثل هذه الحالات على تبني التقويم المالي الذي لا ينجح دائما. كما باءت محاولات الاستعانة بالادخار "النائم" أو بالتمويل غير التقليدي أو الشراكات بين العمومي والخاص بفشل ذريع.
إن كان هناك درس نتعلمه من هذا فهو أن مشكلة الاقتصاد الجزائري لا تكمن في جانبه المالي بل الثقافي والفسلفي. ألم يعترف رئيس الجمهورية بأن قوانين المالية، خاصة منها التكميلية، ظلت لسنوات مقتصرة على امتصاص العجز الناجم عن إعادة تقييم المشاريع وتضخيم التكاليف المتعلقة بالاستيراد والذي وصل إلى نسبة 30℅؟ (تصريحات أدلى بها الرئيس عبد المجيد تبون أمام الصحافة بتاريخ 1 أبريل 2020).
المواطن الجزائري: ثروة يجب إعادة الاعتبار لها
أدى التبذير المحموم والميزانية غير العقلانية بأصحاب القرار السياسي إلى إهمال العامل الإنساني واختزاله في جانبه الاستهلاكي. بينما تم تهميش ذكائه وقيمته المضافة وإبداعه ودوره المنظم. فخسر الجزائري مع مرور الوقت قيم العمل والتجديد والاستحقاقية في ظل الرفاهية الزائفة للدولة.
لكي ينجح المشروع الاقتصادي الجزائري في تحديد النموذج الأمثل والآفاق الإستراتيجية، يجب أن يكون الإنسان الجزائري في قلب هذه السيرورة وهذا بفك القيود عن حقل المبادرات لكي يصبح كل مواطن مصدرا للإبداع والقيمة المضافة.
فالاقتصاد القوي لا يعتمد على القوة النقدية للدولة فحسب بل يرتبط كذلك براحة وانبساط المواطن. ومن هذا المنطلق، تعتبر الجالية الجزائرية بالخارج مصدرا خصبا للكفاءات تسهل تعبئته من أجل تحقيق النهضة الاقتصادية والصناعية.
ضرورة إعادة توزيع الثروة الوطنية
لقد جعل نموذج الإنفاق الذي تبنته الحكومات المتتالية من الطلبية العمومية أداة تنظيم اجتماعي واقتصادي، ولم يستفد من هذا الأخير إلا قلة من المقاولين ومن أصحاب القرار. فترتب عن ذلك اتساع الشرخ الاجتماعي وتفاقم اللامساواة: فاقت نسبة البطالة العامة 12℅ بينما تجاوزت الـ20℅ لدى متخرجي التعليم العالي والتكوين المهني.
أما إجراءات التوزيع التي تمخضت عنها ذهنية الحفاظ على السلام الاجتماعي والتي تفتقد إلى إستراتيجية حقيقية لدعم الاقتصاد الوطني، فقد تسببت في تقليص جهود الدولة الإرادية. وعلى صعيد آخر وبالرغم من ضخامة التحويلات الاجتماعية والدعم المالي والتخفيضات الجبائية والسياسات الاجتماعية المتعلقة بالسكن ودعم إنشاء الشركات، لم تلاقي هذه التدابير إلا النفور والاستنكار حيث تسبب غياب الرقابة والإهمال والفساد في إجهاض كل هذه الجهود.
من المستحسن أن تقوم الحكومة الجزائرية بوضع آليات دقيقة وسهلة المراقبة لإعادة توزيع الثروات ولاسيما عبر ترشيد الصناديق الخاصة وتأطير الدعم وتشجيع اللامركزية في ما يخص بالتضامن الوطني وذلك بتمكين الجماعات المحلية المنتخبة وإشراك المنظمات الاجتماعية النيابية.
التنمية البشرية: الورقة الرابحة
كشفت أزمة كورونا عن النقائص الفادحة التي تعاني منها الجزائر في مجال التنمية البشرية فقد صار من الضروري تصحيح الخلل الذي طال العديد من القطاعات: هشاشة المنظومة الصحية، التردد في إرساء آليات الإدماج التكنولوجي، جمود التكوين والبحث واحتضار قطاع الثقافة والترفيه... حيث لا بد للإنفاق الاجتماعي أن يركز على تحسين البنية التحتية للمنظومة الصحية والتغطية الصحية وتكوين الأطباء الجدد. كما يجب الاستمرار بجدية في تعزيز الإدماج التكنولوجي ولاسيما في ما يتعلق بالخدمات العمومية وقطاع الإنتاج لضمان استمرارية الخدمات المقدمة للمواطن وتخفيف الأضرار التي قد تسببها مثل هذه الأزمات الاقتصادية الكبرى مستقبلا. وسيسمح تعزيز آليات التكوين والبحث بتطوير موارد بشرية ذات جودة عالية قادرة على تأسيس اقتصاد المعرفة المستقبلي. وأخيرا فإن خلق مواطن متفتح ومنبسط من خلال الثقافة والترفيه يستوجب تطوير مؤسسات صناعية مخصصة لهذين الجانبين الأساسيين من حياة الإنسان.
والأهم من كل هذا فإن الأمن الغذائي يظل التحدي الأكبر الذي لا يمكن ربحه إلا بتعزيز المخزون الإستراتيجي وتنويع الموارد الزراعية وتشجيع اقتصاد ريفي غذائي حقيقي من خلال تحفيز أصحاب المشاريع وتحريرهم من العوائق البيروقراطية.
رؤية واسعة لحقوق الإنسان
تعتبر الديمقراطية (بمعنى مشاركة المواطن المستنيرة والفعالة في اتخاذ القرار) الطريق الوحيد المؤدي إلى نمو اجتماعي واقتصادي منسجم. ويكون فتح مجال التعبير للمواطن بصفته ضمانا لممارسة حقوقه الأساسية عاملا مهما لتعزيز التماسك الاجتماعي ومشاركة المواطن في مكافحة الأخطار الكبرى والجائحات. ولكي يقوم هذا الأخير بدوره الأساسي في الوقاية والتضامن وتعزيز الاستقرار الاجتماعي، يتوجب وضع أطر وآليات تشريعية تضمن له ممارسة مساواتية ودائمة لحقوقه وحرياته الأساسية.
إندماج وطني ودولي متزن وبعيد عن الإيديولوجيات
لقد بينت أزمة كوفيد-19 هشاشة السياسات الوطنية الظرفية والمنعزلة في مواجهة المخاطر النظامية والعالمية. ويدل ذلك على وجوب الإسراع في تضافر الجهود بين الدول وبين الجماعات الإقليمية والقارية وتنسيق المساعي الدولية وتشجيع إدارة مشتركة للمخاطر الكبرى. وستستفيد الجزائر حتما من إعادة إحياء الكيان الشمال-الإفريقي وتعزيز التعاون البحر-المتوسطي. فسيسمح ذلك على المدى المتوسط برسم خطوات استباقية على المستوى الاجتماعي-الاقتصادي و الجيوستراتيجي لتحكم أفضل بالمسائل الإقليمية والأخطار الأمنية والتعاون الاقتصادي. كما سيفتح هذا سبلا لحل المسائل البيئية التي ستفرض نفسها حتما في المستقبل القريب.
ليس هناك في مجال الاقتصاد أو السياسة نقاش قابل للحسم بصفة نهائية. فقد أثبتت الأزمة الصحية للسلطات أن الانسجام والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي مرتبطين بالتنمية النوعية وأن المقاربة "الفالراسية" التي فرضت الربح المالي الأقصى كهدف اقتصادي أوحد لا بد وأن تترك المجال لمناظير أكثر إنسانية. فمن الممكن بناء عالم اجتماعي متضامن تتواكب فيه الكفاءة الاقتصادية مع العدالة الاجتماعية. وقد تكون هذه الصيغة المثلى لاقتصاد الغد.
En économie comme en politique, aucun débat n'est définitivement tranché. La crise sanitaire a fait comprendre aux gouvernements que c’est au développement qualitatif que tiennent l'harmonie et la stabilité socioéconomique. L’approche walrasienne de l'économie ayant institué le profit financier maximal comme finalité économique, devrait céder la place à des approches plus humaines. Un monde social et solidaire où la performance économique s'accompagne d'une justice sociale est possible. C'est, peut-être là le nouveau paradigme de l’économie de demain ?
###
بلقاسم بوخروف محاضر وأستاذ باحث في جامعة مولود معمري بتيزي-وزو،
مؤسسة فريدريش إيبرت
مكتب الجزائر
كولون فواغول, 21 شارع الإمام الغزالي
المرادية ,الجزائر العاصمة