27.07.2021

النموذج الغذائي الجزائري: تقييم الراهن وآفاق التطور

تختلف النماذج الغذائية حسب الزمان والمكان فبالرغم من ثبوت تأثيره على صحة الأفراد لا يوجد نموذج غذائي عالمي ومثالي حيث أن كل النماذج التي توصي أو تقصي تشكيلة غذائية معينة تفتقد للعقلانية العلمية الكافية لإقناع الجميع.

Photo: Nora Zaïr

تختلف النماذج الغذائية حسب الزمان والمكان فبالرغم من ثبوت تأثيره على صحة الأفراد لا يوجد نموذج غذائي عالمي ومثالي حيث أن كل النماذج التي توصي أو تقصي تشكيلة غذائية معينة تفتقد للعقلانية العلمية الكافية لإقناع الجميع.

غير أن النموذج المتوسطي الذي يتبناه قسط كبير من الجزائريين يتميز بفوائد عديدة، من بينها التقليل من أمراض القلب والأيض ناهيك عن السرطان. وقد كان من الأمثل أن يظل هذا النموذج الذي أشاد به كل المختصون العمود الفقري لممارسات الجزائريين الغذائية لولا الانحراف الناجم عن السياسات العمومية ولاسيما سياسة الدعم. لقد انبثقت هذه الأخيرة عن السعي لمحاربة الفقر من خلال رفع الحصة الغذائية للجزائريين، لكنها تسببت في تحول هائل على مستوى نظامهم الغذائي الذي ابتعد تدريجيا عن النموذج الأصلي القائم على القمح اليابس والخضر والفواكه وزيت الزيتون ليتوجه إلى استهلاك غالب للقمح اللين والحليب.

سيسعى كاتب هذا المقال إلى تسليط الضوء على الآثار السلبية التي تخلفها سياسات الدعم العشوائية سواء على المالية العامة أو صحة المواطنين فقد ثبت أنها متصلة بشكل مباشر بالتغيير الذي طرأ على نموذج الجزائريين الغذائي. وقد أدى هذا التحول إلى الشروع في الانتقال لنموذج استهلاكي غربي مع كل ما يترتب عنه من آثار على صحة المواطنين.

ماهية النموذج الغذائي

بالرغم من أنه لا يوجد تعريف رسمي للنموذج الغذائي إلا أن أصحاب الاختصاص اتفقوا على أنه نظام قائم على مجموعة من القواعد والخيارات والممارسات التقنية والاجتماعية والرمزية والسياسية وأنه يتجاوز طبيعة الأغذية المستهلكة فهو يتولد من ثقافة وهوية البلد ومن وضعيته الاقتصادية وسياسته العمومية والمداخيل الأسرية وحالة السكان الصحية.

الراهن الجزائري

في ماض قريب، كان الجزائري يتغذى من المنتوجات الزراعية المحلية ويتبنى نظاما غذائيا قائما على ما يسمى بالهرم المتوسطي المتكون من القمح اليابس (الكسكس، الشخشوخة، الخبز التقليدي...) والخضر والفواكه والقليل من اللحوم.

يتميز هذا النموذج السائد في حوض البحر الأبيض المتوسط باستهلاك كثيف للحبوب والبقوليات والفواكه والأعشاب العطرية وزيت الزيتون، يقابله استهلاك معتدل لمشتقات الحليب والبيض والنبيذ وإقبال ضئيل على الأسماك وضعيف على اللحوم. وقد أشاد المختصون بفوائد هذا النموذج الأصلي الذي صنفته منظمة الصحة الدولية ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة من بين النماذج الغذائية الصحية والمستدامة كما أنه يعتبر من أهم أشكال الوقاية الصحية من خلال التغذية.

للأسف، دخل هذا النموذج الغذائي مرحلة الأفول خصوصا في المناطق الحضرية ليستبدل بممارسات غذائية غربية تسودها ثقافة الأكل السريع والمنتوجات المحولة الغنية بالحبوب المكررة والدهون الحيوانية والسكر واللحوم المعدلة، والفقيرة من البقوليات، الحبوب الكاملة والخضر والفواكه.

حدثت هذه الطفرة في الممارسات الغذائية تحت تأثير ظواهر اجتماعية وثقافية واقتصادية، وهذا حال الجزائر حيث تراجع النموذج الغذائي المتوسطي بحكم العولمة من جهة والسياسات العمومية من جهة أخرى.

عوامل تطور الأسلوب الاستهلاكي

يعكس تطور النهج الاستهلاكي التحولات التي تحدث في المجتمع ولا يمكن استيعابها إلا بتحليل العوامل التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. فالتغيرات التي تطرأ على أساليب العيش توَلد كذلك تحولات على مستوى الممارسات الغذائية والاستهلاكية. فيما يخص الجزائر، انبثق هذا التغيير من السياسات الإرادوية التي انتهجتها الدولة منذ الاستقلال وخصوصا في مجال التغذية التي شغلت مكانة هامة في برامج التنمية وكان هدفها الأول تصحيح العجز الغذائي الذي خلفه الاستعمار وثانيا الرفع من مستوى الاكتفاء الذاتي في مجال التموين عبر توفير الكمية اللازمة من الأغذية بشكل مستدام وذلك في إطار سياسات التنمية الاقتصادية التي سمحت بإعداد الآليات اللازمة.

  • سياسات الدعم: تتجسد عبر تدخل مباشر للدولة في تسيير التوريد والأسعار من خلال دعم المنتوجات ذات الاستهلاك الواسع وقد سمحت هذه السياسة بالحد من التضخم لكنها بالمقابل دفعت بعجلة الاستهلاك ووجهت المواطن نحو المواد المدعمة.
  • تثمين القدرات الزراعية: لقد انتهجت الجزائر منذ الاستقلال سياسات تهدف إلى تحسين وتطوير بعض القطاعات الاستراتيجية وتجسد ذلك أولا عبر دعم القطاع الزراعي بمنح بعض الأفضليات كالقروض المدعومة والامتيازات الضريبية ودعم المدخلات والتجهيزات واستحداث عدة برامج لإنعاش الزراعة.
  • تطوير القطاعات الزراعية
  • استيراد وسائل إضافية للإنتاج الزراعي
  • استيراد كثيف للمنتوجات الأساسية

وقد ترتبت عن هذه السياسات آثار واضحة على المنتجات المستهلكة سواء على الصعيد الكمي أو النوعي.

على صعيد الكمية:

  • ـ تسارع النمو الديموغرافي: لقد تضاعف عدد السكان في الجزائر أربع مرات بين 1960 و2020 لينتقل من 10,8 مليون نسمة غداة الاستقلال إلى 43,3نسمة في 2020. وقد ترتب عن هذا النمو الديموغرافي السريع آثار مباشرة ومتناسبة على كميات المنتجات المستهلكة.
  • ـ الموارد المالية والنفقات الأسرية: لقد أدى تزايد مناصب الشغل إلى الرفع من مداخيل العائلات خلال الخمسين سنة الفارطة كما ترتب عن تحسين وضعية الجزائريين الاقتصادية غداة الاستقلال رفع مستواهم المعيشي وزيادة هامة في كمية المنتجات الغذائية المستهلكة. كما ارتفع المدخول الأسري السنوي من 15,5مليار دينار سنة 1929 إلى 181 مليار دينار في 1988 ليصل إلى 11 382,5مليار في 2018. وتتصدر النفقات الغذائية لائحة مصاريف العائلات فقد بلغت 45,6٪ حسب دراسة أولى تم إنجازها بين 1968 و1969 (مع أن هذا الرقم لا يعكس النسبة الواقعية بسبب سوء تقييم الاستهلاك الذاتي) لتصل إلى 55,7٪ في 1979\1980 52,5٪ سنة 1988 و58,5٪ في 1990 لكن هذه النسبة تضاءلت في 2011 لتستقر في حدود 41,8٪ مقابل 44,6٪ سنة 2000، حسب الدراسة الأخيرة التي أنجزها الديوان الوطني للإحصائيات سنة 2011 حول مصاريف الاستهلاك والمستوى المعيشي للعائلات الجزائرية.
  • ـ ارتفاع الاستيراد: يعتبر اللجوء إلى الاستيراد من ثوابت السياسات الاقتصادية في الجزائر فقد ردت السلطات على ارتفاع الطلب الغذائي بلجوء مكثف للاستيراد لتغطية حاجات المستهلكين الغذائية حيث يحتل التموين قليل التكلفة على مستوى السوق الدولية بفضل مداخيل المحروقات مكانة رئيسية في السياسات الغذائية بالجزائر. بينما لم يتجاوز 684 مليون دولار سنة 1974، بلغ استيراد المنتجات الغذائية 9,75مليار دولار في 2011 (مما يعني 14 أضعاف) ثم استقر في حوالي 8 مليار دولار خلال الأعوام الأواخر، حسب معطيات المركز الوطني للإعلام والإحصائيات. واحتلت المواد الغذائية 30٪ من مجموع الاستيرادات سنة 2020 مما يظهر إلى أي حد صارت التبعية الغذائية للخارج حقيقة بنيوية في النموذج الجزائري. حسب دراسة أنجزها المركز الوطني للإعلام والإحصائيات ونشرها موقع الجمارك، تتصدر الحبوب قائمة هذه الاستيرادات بمعدل ٤ مليار دولار سنويا، يتبعها الحليب ومشتقاته (1 مليار دولار) والسكر (800 مليون دولار).

على صعيد النوعية:

بالرغم من ارتفاع كمي هام للاستهلاك منذ 1962 خصوصا على مستوى الحصة الغذائية إلا أنه لا يزال ناقصا ومختل التوازن على صعيد النوعية. تتمثل الحصة الغذائية في كمية الأغذية التي يجب على الفرد استهلاكها يوميا لتلبية حاجاته الجسدية وترتبط بمجموع الوجبات الرئيسية والخفيفة التي يتناولها في اليوم ويتم حسابها بالحريرات التي تتضمنها الحصة الغذائية المتوسطة.

  • تطور الحصة الغذائية بالجزائر: لقد ارتفعت من 1723 حريرة سنة 1962 إلى 2944 في 1990 لتصل اليوم إلى 3343، مما يعني أنها تجاوزت بكثير الاحتياجات الطاقوية التي أوصت بها منظمة الصحة الدولية (2700 حريرة) وهذا يصنف الجزائر من بين الدول ضعيفة مستوى الجوع (تصنيف أنجزه المعهد الدولي لدراسة السياسات الغذائية).
  • المنتجات الرئيسية المستهلكة: تهيمن الحبوب والحليب على النموذج الاستهلاكي بالجزائر حيث يمثلان مع مشتقاتهما العمود الفقري للنظام الغذائي بالإضافة إلى الزيت والسكر والبطاطا، والبصل والطماطم والثوم. ويمثل هذا المجموع المواد الاستراتيجية التي تحظى بدعم الدولة. تحتل الحبوب ومشتقاتها المركزة الأولى بمعدل 39,22٪، يتبعها الحليب ومشتقاته (2006٪)، السكر والسكريات (10٪) والزيوت والمواد الدسمة (10٪). وتوفر الحبوب 59٪ من السعرة الحرارية للحصة الغذائية و70٪ للبروتينات، مما يجسد اختلال توازن واضح.

وقد ساهمت كل هذه العوامل في التأثير المباشر على النموذج الغذائي الجزائري الذي تطور بشكل ملحوظ لتدخل البلاد مرحلة غذائية انتقالية حيث ابتعدت السلوكيات والنمط الاستهلاكي عن النموذج الأصلي القائم على الهرم المتوسطي لتقترب أكثر فأكثر من نموذج البلدان المتطورة مما تسبب في ارتفاع نسبة الأمراض والتكاليف الصحية.

الجزائر في قلب المرحلة الغذائية الانتقالية

لقد تغير نمط عيش الجزائريين بشكل نهائي حيث نلاحظ تحولا اجتماعيا عميقا رافقه تمدين متزايد وتغيير عادات اللباس والأكل فالنموذج السائد حاليا تسوده ثقافة الأكل السريع والشوارما وسوء التغذية. وبالتالي انتقلنا من نموذج قائم على المنتجات المحلية إلى آخر تهيمن عليه منتجات مستوردة بالعملة الصعبة كما تتسبب قلة التنوع في اختلال التوازن على مستوى نظام الجزائريين الغذائي فقد تخلوا عن الحبوب لفائدة الطحين وعن زيت الزيتون لصالح زيت الصويا كما أخذ الرغيف الفرنسي والبيتزا مكان الخبز التقليدي المصنوع بالقمح وحَلَّ السكر والدسم محل البروتينات النباتية مما تسبب في انتشار أمراض القلب والأوعية، والسكري وزيادة الوزن والبدانة.

ونتج هذا النموذج الاستهلاكي الجديد بشكل أساسي عن سياسات الدعم المعممة، خصوصا فيما يتعلق بالقمح الذي يتصدر قائمة المنتجات المستهلكة في الجزائر ويتربع على فاتورة الاستيراد الغذائي. في الواقع، خلفت سياسات وآليات دعم الأسعار آثارا شاذة فقد أدت إلى إضعاف الإنتاج المحلي لصالح الاستيراد المكثف وإلى تبذير المواد الغذائية بما أن سعرها لا يعكس تكاليف الإنتاج كما تنجر عن هذه السياسات جهود مالية كبيرة تؤثر سلبا على ميزانية الدولة.

الخاتمة

إذا أخذنا بمنطق أن الأمن الغذائي مرتبط بقدرة بلد معين على توفير كمية ونوعية كافيتين من غذائه في الوقت المناسب، فيمكننا القول أن الجزائر قد بلغت هذا الهدف لكن بتكلفة كبيرة. كما أن المستهلك الجزائري هو الخاسر الأول في هذا السباق نحو الاكتفاء الغذائي بما أنه ضيع معالمه المطبخية والثقافية. وتعيش الجزائر في الواقع مرحلة غذائية انتقالية قد تؤدي إلى انقلاب لا رجعة فيه، فقد شرع الجزائريون في بناء هوية غذائية جديدة انطلاقا من عدة مراجع تمتزج فيها التقاليد بسلوكيات حديثة (شراء وجبات جاهزة، الاقبال على الأكل السريع...). وبالإضافة إلى هذا التغيير على مستوى الممارسات، يتوجه الجزائريون نحو استهلاك المنتجات المحولة والمفتقرة للقيمة الغذائية المضافة مثل الرغيف الفرنسي وكيس الحليب والبيتزا.

وتمخضت عن هذا التغيير الجذري عدة إشكاليات، خصوصا فيما يتعلق بالصحة العمومية، ناهيك عن فاتورة غذائية تثقل ميزانية الدولة، مما يستوجب من السلطات العمومية إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية.

فالمسألة الأولى التي تستدعي تدخل الدولة تتمثل في مراجعة سياسة الدعم المكثفة للمنتجات الغذائية واستبدالها بدعم مستهدف لحماية صحة المواطن بالدرجة الأولى وترشيد الموارد المالية بالدرجة الثانية. ولذلك فإن مسألة إصلاح سياسة الدعم تفرض نفسها بإلحاح. لكن هذا لا يعني التراجع عن السياسة الاجتماعية التي انتهجها البلد، بل ضرورة إصلاحها في إطار سعي شامل من شأنه إعادة إحياء المالية العمومية. ولإنجاح هذا المسار الإصلاحي، لا بد من إيجاد آليات بديلة تتناسب والسياق الجزائري مع اختيار دقيق للمواد المدعومة عبر تشجيع زراعة صحية وطبيعية. كما أنه من الضروري أن تصاغ هذه السياسات بما يتناغم مع معالم الثقافة الجزائرية: بما أن الأسلوب الغذائي يحمل في طياته قيم الهوية، لا يستحسن فرض نموذج غريب على المعايير التقليدية الذوقية منها والرمزية، وذلك لتفادي ظهور مشاكل عويصة وتنميط غير مرغوب فيه اجتماعيا. لكل هذه الأسباب، يؤيد المختصون فكرة العودة إلى الهرم الغذائي المتوسطي الذي من شأنه تعديل وتصحيح السلوكيات الخطيرة وضمان مرحلة انتقالية سلسة.

حميدي وهاب، مستشار في المالية، مؤسس ورئيس تحرير موقع www.algeriabusiness.info المختص في الاقتصاد الجزائري.

المراجع:

Bessaoud, Omar / Pelissier, Jean Paul / Rolland, Jean Pierre Paul / Kherchimi, Widded (2019) : Rapport de synthèse sur l’agriculture en Algérie, ENPARD Méditerranée

Chikhi, Kamel / Padila, Martine (2014) : Alimentation en Algérie, quelles formes de modernité ? Revue méditerranéenne d'économie, agriculture et environnement, N°13, 3, pp. 50-58

Djenane, Abdelmadjid (2012) : La dépendance alimentaire : un essai d’analyse, Confluences méditerranée, N°81

Frahi, Said (1999) : L’évolution de la consommation alimentaire en Algérie de 1962 aux années 90, Horizons Maghrébins - Le droit à la mémoire, N°37-38, pp. 151-157

مؤسسة فريدريش إيبرت
مكتب الجزائر

كولون فواغول, 21 شارع الإمام الغزالي
المرادية ,الجزائر العاصمة

71 36 47 23 213+
info(at)fes-algeria.org

أعضاء المكتب/الإتصال