24.11.2020

"العنف كسلاح عالمي في يد الهيمنة الذكورية" – جرائم قتل النساء في السياق الجزائري

لم ينتبه المجتمع الجزائري إلى ظاهرة العنف إلا مؤخرا بالرغم من كونه أولى ضحاياها. فلطالما تشبث وعيه بسلطة الحاكم وتقبل عقله شرعية تجبر وعنف المهيمن اتجاه المحكوم، سواء كان ذلك في المجال السياسي-الاجتماعي أو الأسري، سواء طال هذا العنف النساء والأطفال أو العمال.

الرضوخ كقيمة أخلاقية

في ظل غياب دولة القانون التي تتعهد بخدمة الأمة وبضمان المساواة بين المواطنين والمواطنات، يظل العنف "الفطري" حقا ذكريا محضا يؤدي إلى خضوع الفئات المغلوبة لسلطة "الأقوى". يعتبر العنف في السياق الأسري الأداة التي يستعملها "المسئول عن العائلة" لـ"تهذيب" و"تسيير" العلاقات داخل الأسرة. ويبرر مجتمعنا، الذي لا يزال أبويا في آلياته ومخياله، ظاهرة العنف بالرجوع إلى مكانة الفاعلين. فتسمح مسؤوليات هذا وضعف ذاك بممارسة العنف وعلى حد أقصى ارتكاب الجريمة، حيث تفرض حالة الضعف الرضوخَ للسلطة "الحامية" والقبول بكل ما يترتب عن ذلك من عواقب اجتماعية.

بالرغم من أن الكثيرين ينبذون التجاوزات التي يمكن أن تحدث إلا أنه يظل من الواجب تربية البنات على "الرضوخ كقيمة أخلاقية" وقد يصل الأمر إلى تأديبهن بحزم أو اللجوء إلى العنف حتى يتقبلن باطنيا مرتبة التبعية ودور الخادمات لرغبات الغير. فيتوجب عليهن الإنجاب للحفاظ على نسل المجتمع، العمل المنزلي لمسايرة الاقتصاد، العناية بالأطفال والمرضى والمسنين والمعاقين، عدم الإخلال بالمعايير الاجتماعية وجمح رغباتهن وطموحاتهن...

وتقوم الدولة، في سياق إدارتها للشأن الخاص وللانتهاكات المحتملة بتفويض جزء من السلطة للرجال بهدف الإبقاء على الركود الاجتماعي والسياسي. فيصبح مقام المعتدي (الأب، الأخ أو الزوج) مبررا للعنف. وتعاني النساء من هذه الوضعية لأنهن، عكس الرجال، يمنعن منذ صغرهن من النضوج في ظل القانون الحالي (قانون الأسرة) الذي يحول دون وصولهن إلى مرتبة الإنسان الراشد والمسئول عن نفسه وعن قراراته مهما كانت طبقته الاجتماعية.

وأيا كانت الرتبة الاجتماعية للمرأة فهي لن تضمن لها القدرة الكاملة على التحكم في كافة جوانب حياتها حيث أنها لا تلبث أن تصطدم بالقوانين المجحفة والتمييز والعنف، فيجبرها ذلك على التفاوض لاستغلال أدنى الهوامش المسموحة لها. أما إن أتيح لها العيش بمنأى عن الممنوعات والمقاييس الاجتماعية فيتوجب عليها الامتناع عن المطالبة بحقها في "الاختلاف" لتفادي دفع ضريبة غالية أو اختيار المنفى إن كانت تتمتع بامتيازات اجتماعية.

مساهمة النساء في سوق العمل

لقد ترتب عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية وعن مساهمة النساء في سوق العمل ومجال المعرفة، ظهور فئات اجتماعية جديدة تطالب بحقها في مواطنة كاملة. وقد تمثلت ردة فعل المجتمع حيال أزمة الثمانينات في اتهام النساء بـ"سرقة مناصب الشغل" وتحميلهن مسؤولية الفوضى الاجتماعية و"انهيار القِـيَم" وذلك بالرغم من أن الإحصائيات أظهرت بوضوح أقلية وجودهن في سوق العمل بالمقارنة مع جودة نتائجهن المدرسية. وبالموازاة مع ذلك، اجتهدت الإيديولوجية الإسلاماوية على تقليص النساء في دور المنجبات والأمهات الراضخات لسلطة الذكر وعلى وضع الحيز الأسري كمصدر وحيد لشرعيتهن وحقهن في الاحترام بينما يمنعن من ممارسة مواطنتهن إلى درجة اعتبارهن ناقصات عقل في خطاب لاقى رواجا كبيرا خلال التسعينيات.

عوض معارضة سياسة الدولة التي تسببت في النكبة الاقتصادية والانهيار الاجتماعي والبطالة والبؤس، قامت النخب السياسية المهيمنة بتغذية هذه الإيديولوجية عبر التربية والخطاب الديني ووسائل الإعلام والترويج لصورة المرأة كعدو "داخلي". فدفعت النساء ثمن ذلك غاليا حيث ذقن الأمرين خلال التسعينيات وتعرضن لأبشع أنواع العنف الإرهابي. وقد فضحت جرائم الإرهاب الإسلاماوي مدى تفشي العنف ضد النساء داخل المجتمع الجزائري واستفحال الطابوهات غير الممنهجة في ظل التحولات الاجتماعية.

لكن دخول الجزائر في حيز العولمة وخضوعها لضغوطات من أجل تحرير الاقتصاد بكل ما يقتضيه ذلك من البحث عن يد عاملة قليلة التكلفة، ساعد على سد الفراغ في المجالات التي نبذها الرجال، وذلك عبر تشغيل النساء بحكم تفوقهن المدرسي وضعف انخراطهن النقابي وقبولهن لأجرة ضئيلة. وهذا ما يبرر تمثيلهن المفرط في مجالات معينة بينما لا تزال المساواة في فرص الشغل بعيدة المبتغى.

وبالرغم من هذا التطور الملحوظ، مازالت صورة المرأة التي تروج لها وسائل الإعلام الخاصة مقتصرة على الأنوثة والأمومة وذلك يشي برفض تما لدورها كفاعل اقتصادي، سياسي، جمعوي، ثقافي أو اجتماعي. وقد لاحظنا ذلك خلال الحراك حين هاجمت مجموعة من المواطنين "المربع النسوي" بهدف إسكات المناضلات واحتكار تقرير المطالب على الرجال فقط . وبالإضافة إلى نزعتها الدينية المتعصبة، تتميز هذه الإيديولوجية بطابع جديد ألا وهو الاستهلاكية التي اقتحمت كل شرائح المجتمع فشهدت الساحة السياسية والإعلامية اضمحلال الأفكار التقدمية الساعية إلى تحقيق العدالة للجميع التي رافقت الاستقلال لتحل محلها صورة نمطية روج لها الإشهار، تجعل من النساء مجرد "مستهلكات" وذلك بهدف خلق أسواق جماهيرية لصالح الاستيراد.

العنف المنزلي

يعتبر الدفاع عن حقوق الإنسان ومحاربة العنف المنزلي والأسري فكرة حديثة المنشأ ساهمت العولمة في الترويج لها بشكل غير متكافئ وانتهازي في بعض الأحيان. فغالبا ما يخضع تعريف العنف لطبيعة الوضع القانوني والاجتماعي للرجل والمرأة. ويرتكز وضعهما التفاضلي على عدم التكافؤ في حالات الزواج والطلاق، الميراث، الولاية الأبوية التي تحرم النساء من حقوقهن على أطفالهن في إطار الزواج وترسخ بذلك كل أنواع التمييز.

سنة 2015، وبعد كفاح طويل رادته الجمعيات النسوية وضغوطات مارستها المنظمات الدولية، تم أخذ العنف المنزلي (الزوجي والأسري) بعين الاعتبار في حيز قانون العقوبات. لكن تطبيقه لا يزال محل إشكال(1) فلم يتم بعد تجريم الاغتصاب الزوجي ولا تستطيع المرأة طلب الطلاق إلا بشراء حريتها وفي حالة ما كانت ضحية للعنف، لا يقبل طلبها إلا بموافقة المحكمة. فوحدها العدالة مخولة لتحديد "كمية" العنف الذي يسمح بإدانة المعتدي، ناهيك عن أنه يمكن لهذا الأخير التملص من العقوبة بفضل بند "العفو" الذي تمت إضافته للنص القانوني.

جرائم قتل النساء

تحدث هذه الجرائم عندما ترفض المرأة الخضوع أو تقرر الانعتاق من علاقة سامة. وهذا ما لاحظناه في مختلف الجرائم الأخيرة التي ارتكبها الأقارب وفي أغلب الأحيان الزوج أو الطليق الذي لا يمكنه احتمال خسارة سلطته وهيمنته. وبطبيعة الحال، لا يمكننا الحديث عن ارتفاع أو انخفاض في عدد هذه الجرائم إلا بالرجوع إلى أرقام تصدرها على المدى الطويل مؤسسات الدولة كالطب الشرعي ومراكز الشرطة والمحاكم. ومن حق المجتمع الإطلاع على مثل هذه المعلومات بيد أنه يتم تصنيف بعض الوفيات في خانة الانتحار أو الأمراض المرتبطة بالعنف (رفض التكفل بالعلاج مثلا).

يحفل التاريخ بعدة مبررات لجرائم قتل النساء: العصيان أو الجريمة العاطفية أو جرائم الشرف،

  • عصيان وتمرد المرأة على السلطة "الشرعية"،
  • الجريمة العاطفية بحجة أن عشق القاتل للضحية أدى به إلى إنهاء حياتها، بينما هو في الحقيقة يحب نفسه إلى حد أنه يرفض فقدان "ملكيته" للمرأة،
  • جريمة الشرف سواء تعلق ذلك بحمل المرأة خارج إطار الزواج (أي انتهاك عُرف النسب القائم على هوية الأب) في حالة اغتصاب أو سفاح القربى أو علاقة غرامية، سواء جراء اتهام بالخيانة الزوجية بإثبات أو دون إثبات.

وهي نفس الحجج التي نجدها اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي لتبرير العنف وجرائم قتل النساء بينما تقوم بعض الأطراف "المفوضة" برمي المسؤولية على "إهمال" الأولياء عوض إدانة المعتدين. ولطالما صنفت هذه الجرائم في خانة "الأخبار المتنوعة" التي لا تستحق اهتمام المجتمع، لكنها ما لبثت أن اكتسحت وسائل الإعلام بحكم تعدد القنوات الخاصة وانتشار الإنترنت بعد عقود طويلة احتكرت فيها المصادر الرسمية هذه المعلومات. وهي حقبة اقتصر فيها الإعلام على نشاطات الحكام مما ضاعف اهتمام الجماهير اليوم بالأخبار المحلية التي غالبا ما ترافقها صور شديدة القسوة. وترتب عن تحرير الصورة أثرين أساسيين على المجتمع: تغذية الشغف بالفضائح والمآسي دون تقديم المفاتيح اللازمة لفهم الأحداث في بعدها السياسي والاجتماعي، ومن جهة أخرى تعزيز ثقافة الخوف عند النساء التي تصهرها أصلا التربية على الإحساس بالذنب حيال العنف الذي تعانينه. فتبرز هذه الصور "ضعف" النساء وبالتالي حاجتهن إلى "حماية ذكرية"، دون أن تتطرق لضرورة زرع روح المسؤولية ووضع إجراءات وقائية من طرف الدولة.

لقد طالبت المناضلات النسويات منذ الحرب التحريرية وغداة الاستقلال بتغيير جذري لوضعية المرأة وذلك بإرساء المساواة أمام القانون وفي ممارسة الحريات المدنية والسياسية، إلا أنه لم يتم تسليط الضوء على العنف كأداة هيمنة إلا خلال الثلاثين سنة الماضية. ويشي هذا العنف بحالة المجتمع ويفضح مدى الظلم والتمييز والمعاناة "المُتَفَّهة" وهي ظاهرة بدأت بالكاد تساءِل مجتمعا يستغرب التشكيك في ظواهر يعتبرها "طبيعية". كما ترتب عن فضح هذا العنف مراجعة دور المؤسسة القضائية التي غالبا ما تجاهلت هذه الجرائم وتسترت على مرتكبيها بصفتهم رجالا وبالتالي مواطنين من الدرجة الأولى.

أدى النضال من أجل الاستقلال وما تلاه من رغبة في بناء عدالة اجتماعية، إلى إهمال الظلم والتمييز القائم على الجنس واللذان يستحيل اليوم التكتم عليهما. فبالرغم من أن محاربة الظلم الاجتماعي (توزيع الثروات والسلطات) لا يعادل بديهيا النضال من أجل مواطنة متساوية إلا أنهما يتقاطعن في عدة نقاط. ومن هذا المنظور، تتبين أهمية وأثر مصطلح "جرائم قتل النساء" لأن هذا الأخير يبرز بدقة عنفا محددا يطال النساء بغض النظر عن مركزتهن الاجتماعية.

دور الإعلام

من الواضح أن للإعلام دور كبير في رفع صدى هذا العنف وإن كان ذلك أحيانا لدوافع تجارية محضة. كما تعتبر الشتائم والتذنيب الموجهين للضحايا كتجليات قصوى لمقاومة المجتمع ضد تغيير وضعية النساء الذي لا يستطيع قبوله ولا إيقافه بما أن ذلك مرتبط بحتميات التاريخ الاجتماعي. كما يستحيل التنبؤ بإرهاصات ميزان القوى الاجتماعية الفاعلة في هذه التغيرات.

ويلعب الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي دورا هاما في مضاعفة الشغف بالعنف بالموازاة مع إدانته أو تأنيب الضحية. فما هي حدود تقبل المجتمع لهذا العنف في زمن السلم بعدما عاش لعقد كامل تحت وطأة الجرائم الإسلاموية الإرهابية؟ هل نعيش اليوم لحظة حاسمة يدرك فيها المجتمع خطورة هذا العنف الذي يدمر الأسر والروابط الاجتماعية؟

خوف العائلات على بناتهن بعد ولوجهن إلى الفضاء العام بفضل الدراسة والعمل راجع إلى استفحال ظاهرة التحرش كمعاناة يومية بالرغم من أن النساء أصبحن اليوم، شئنا ذلك أم أبينا، فاعلات في التغيير الاجتماعي. فهن يساهمن في الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي ويزداد وزنهن في تأسيس الإرث العائلي كما أنهن حاضرات بقوة في مؤسسات السلطة كالعدالة والصحة والتربية.

يكتسي دور الإعلام في محاربة العنف أهمية قصوى، ذلك أنه ينقل خطابات وصورا صادرة عن أوساط اجتماعية معترف بها كما ينشر تصوراته ورسائله الخاصة. إلا أن تعدد القنوات التلفزيونية الخاصة في السنوات الأخيرة أدى على العكس إلى الترويج لصورة سلبية للمرأة ككيان اجتماعي ثانوي ومُجَنَّس بإفراط وهذا ما يعزز ويُطَبِّعُ العنف(2). كما تتجاهل هذه التصورات التغيير وتنوع الأوضاع والسياقات الاجتماعية، وتغض النظر عن تطلعات النساء إلى المواطنة والكرامة.

يتمثل دور الإعلام في إبلاغ المجتمع عما يحدث بداخله من مشاكل وتحولات، من تقدم أو تراجع على صعيد القيم والأهداف. ويكون ذلك عبر عرض الحقائق (لاسيما فيما يتعلق بالعنف) وتزويد الجمهور بأدوات لتحليل أسباب وعواقب هذه الظواهر. ومن الواجب على الإعلام أن يكتفي بالحقائق دون اللجوء إلى الصور المبتذلة والنمطية التي ينتهجها الخطاب المهيمن، كعبارة "مأساة عائلية" التي يصير فيها القاتل والمقتولة ضحيتان على السواء، أو كالقول مثلا "كان رجلا غيورا" مما يشجعنا على تفهم المعتدي وتقبل فكرة أن الضحية كانت "قليلة الأخلاق" مما يبرر الجريمة.

المساواة في الحقوق كمسألة جوهرية

بالرغم من أن المجتمع يشهد اليوم تحولات عميقة إلا أن الحكام والنخب لا يزالون يستنسخون بتراخي ودون أي حس نقدي الإيديولوجية التقليدية لتفوق الرجال وأفضليتهم "الطبيعية"، كما يعيشون ركودا واضحا سواء كان ذلك على صعيد الخطاب المهترئ أو المواقف المبدئية التي لا تتجسد في الممارسة السياسية. فمن الضروري التأسيس لتقاسم جديد بين النساء والرجال للأدوار والوظائف في صيغة سياسية واجتماعية تواكب هذا المجتمع الجديد الذي يجد صعوبة في إرساء معاييره ومبادئه وأسس مواطنته. وللوصول إلى هذا الهدف، توجب أولا تكريس المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات ضمن النصوص الأساسية وفي إطار دولة القانون. وبالطبع لن يكفِ ترسيم هذه المساواة لدحر العنف لكنه سينزع عن هذا الأخير طابعه الشرعي الذي يستديم به.

وسيكون إلغاء بند "العفو" والتطبيق الفعلي للقانون المتعلق بالعنف والتحرش والقيام بإجراءات صارمة لحماية الضحايا ومحاربة خطابات الكراهية والتمييز وتشجيع قيم المساواة في المدرسة وضمان فرص العمل المتساوية، بمثابة المؤشرات التي توحي ببداية الإصلاح ورد الاعتبار إلى كافة أفراد المجتمع.

دليلة يامارن جربال، عالمة اجتماع، مناضلة نسوية، عضوة مؤسسة في شبكة وسيلة لمحاربة العنف ضد النساء والأطفال.

(1)العدالة لا تزال تعمل بالإجراءات القديمة مما يحول دون تطبيق فعلي للقانون، ناهيك عن بند "العفو" الذي يسمح بوقف الإجراءات ضد المعتدي. أول سؤال يطرحه القاضي على الضحية هو إن كانت تريد العفو عن المدعى عليه.

(2)أصدر مركز المرأة العربية للتكوين والأبحاث سنة 2000 دراسة مفادها أن 78℅ من الصور التي يبثها الإعلام العربي عن المرأة سلبية. (الرابط)

مؤسسة فريدريش إيبرت
مكتب الجزائر

كولون فواغول, 21 شارع الإمام الغزالي
المرادية ,الجزائر العاصمة

71 36 47 23 213+
info(at)fes-algeria.org

أعضاء المكتب/الإتصال